د. أشرف الصباغ
وفقا لهذه الرؤى اعتبر البعض أن النظام المقبل في مصر قد يكون شبيها بالنظام الباكستاني، ما يشير إلى الرغبة في إرضاء الولايات المتحدة ويحافظ على الصورة النمطية التي اعتمدها الغرب للدول العربية والإسلامية. ورأى البعض الآخر إمكانية تأسيس نظام حكم في مصر شبيه بالنموذج التركي العلماني مع الحفاظ على هوية الدولة الإسلامية.
النموذج الباكستاني قد يروق للإخوان المسلمين وقادة القوات المسلحة. وبالتالي يجري التعامل ببطء ملحوظ مع الأحداث الطائفية، بل والتعمد الواضح في عدم مواجهة التيارات السلفية المتطرفة. ويفسر البعض ذلك بأن القوات المسلحة والمجلس الأعلى العسكري يعملان على خلق تناقضات سياسية واجتماعية جديدة تفسح المجال للقوات المسلحة بإحكام قبضتها على مصر حتى في ظل حكم مدني.
أما النموذج التركي فلا يروق إطلاقا للإخوان المسلمين ولا للسلفيين وبقايا الموالين للنظام السياسي السابق. ولكن في حال الاتفاق بين المجلس الأعلى العسكري والإخوان المسلمين، قد يتنازل الإخوان ويوافقون على هذا النموذج (مع عدم معالجة المادة الثانية في الدستور المصري القديم) مقابل حصولهم على ضمانات للوصول إلى السلطة. لكن كل ذلك مرتبط بشكل الدستور الجديد وشكل الدولة (مدنية أم علمانية؟ رئاسية أم برلمانية؟). وفي كل الأحوال سيتم تشويه النموذج التركي لصالح القوات المسلحة والإخوان المسلمين والسلفيين، ما سيشكل خدمة تاريخية للولايات المتحدة والغرب.
هناك محاولات واضحة من جانب المجلس الأعلى العسكري لترسيخ فكرة أن القوات المسلحة هي الضامن الوحيد لنجاح الثورة والحفاظ على مكتسباتها. ما يفسر بقدر كبير البطء المتعمد في اتخاذ الإجراءات، والتأخر الواضح في ملاحقة الأحداث عموما، وأحداث الملف الطائفي على وجه الخصوص. علما بأن الثورة كشفت عن أن الملف الطائفي كان ملفا أمنيا قبل أن يكون ملفا اجتماعيا وثقافيا وإنسانيا. وكشفت الثورة أيضا أن الملف الطائفي في مصر كان بتدبير من جهاز أمن الدولة.
إن محاولات المجلس الأعلى العسكري ترسيخ الفكرة السابقة تمنحه فرصة للمناورة في المستقبل، وتعطيه الإمكانية للتدخل في شؤون الدولة، سواء كانت مدنية أو علمانية. وقد يكون الملف الطائفي هو الورقة الأقوى في توزيع موازين القوى في الدولة المصرية الجديدة إذا لم يتم اعتماد صيغة المواطنة كقاعدة رئيسية في الدستور الجديد والحرص على تفعيل بنود الحريات المدنية وإلغاء خانتي الديانة والمهنة في الهويات الشخصية ووضع نصوص رادعة للفتنة الطائفية. كما أن الملف الطائفي قد يكون أحد أهم وأخطر الأسباب لتدخلات خارجية، الأمر الذي يثير الشكوك حول أدوار إقليمية ودولية لتفجير هذا الملف في مصر وإشعال نار الفتنة الطائفية ووضع كل التحولات في إطار يحقق وجهة النظر الغربية ويبرر وصفات ومقولات بعض الصحفيين والباحثين الغربيين بأن ما جري في مصر انقلاب وراءه الإخوان المسلمون وبأن الإسلام السياسي سوف يستولي على السلطة في مصر.
من الواضح ووفقا للعديد من الشواهد أن ما حدث في مصر هو "ثورة وطنية ديمقراطية" أفرزت بعض المطالب الاجتماعية. هذا ما يجعلنا نتحدث بقوة حول أن هذه الثورة، التي قامت بمعايير تختلف عن معايير وأطر الثورات الكلاسيكية، ليست ثورة اجتماعية بأيديولوجية ومطالب محددة. وبالتالي يحيلنا ذلك إلى مدى المقاومة الصلبة التي يبديها المجلس العسكري وتيار الإسلام السياسي، والثورة المضادة عموما، للمطالب الفئوية والاجتماعية واحتجاجات العمال والعاملين في مؤسسات الدولة عموما. هذه القوى الثلاث تعمل على إبقاء ما جرى في إطار "تحول وطني ديمقراطي بعيد عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية الشاملة"، ما يتيح لها فرصة البقاء على رأس المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والسيطرة التامة على مسار الحكم وتوجيه البلاد في الاتجاهات التي تخدم مصالحها.
هكذا يمكن تبرير عمليات الفرملة والإبطاء في اتخاذ الإجراءات اللازمة والقانونية ضد أركان النظام السابق الذين اعتقلوا، وضد المؤسسات التي يملكونها أو يديرونها، وضد رؤوس الأموال العربية أو الأجنبية المشبوهة والتي لعبت دورا هاما في هدم الاقتصاد المصري والاستيلاء على المؤسسات الوطنية منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين.
لقد أصبحت الخريطة السياسية المصرية أكثر تعقيدا بعد ثورة 25 يناير. فهناك القوات المسلحة والمجلس الأعلى العسكري، والإخوان المسلمون، والتيار السلفي، وجبهة البرادعي (الحملة الشعبية لدعم البرادعي والجمعية الوطنية للتغيير)، وجبهة القوى اليسارية، وحزب الوسط، وحزب الوفد، والحزب الناصري، وحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، وحزب الغد، وأحزاب وتكتلات وجبهات أخرى. لكن القوى الواضحة التي يمكن أن تشارك بقوة في العمليات السياسية والتشريعية من بين كل ذلك هي بالترتيب، القوات المسلحة والمجلس الأعلى العسكري، والإخوان المسلمون، وجبهة البرادعي. بعد ذلك يأتي جبهة القوى اليسارية والناصريون وحزب الغد (بقيادة أيمن نور) والأحزاب والتظيمات والجمعيات الأخرى. لكن الواضح أن الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون) والقوى اليسارية والقومية (جبهة القوى اليسارية وحزب التجمع والناصريون) يعملون بآليات واحدة وبشكل متوازي. فهناك انشقاقات حادة وخلافات في صفوف الإخوان المسلمين. وبالتالي ظهر شباب الإخوان ليعلن عن أشكال وآليات جديدة ملائمة لما بعد ثورة 25 يناير وبالتالي حاز على إعجاب كبير من جانب القوى الليبرالية واليسارية والنخبة السياسية والفكرية. ولكن قد تستثمر قيادات الإخوان القديمة هذا النجاح للتطهر ومسح خطاياها وتآمراتها. أما الأحزاب اليسارية العلنية والسرية التي تعاني ترهلا وأزمات تنظيمية وفكرية حولتها إلى ساحة من الصراعات والفضائح المالية والأخلاقية (بما في ذلك كوادر اليسار العاملة في مجالي البيزنس والبيزنس السياسي التي تدور حولها تساؤلات كثيرة بشأن تحولاتها السياسية والفكرية وسلوكياتها وتصرفاتها طوال السنوات الماضية)، فقد نجحت بدرجات ما في استثمار نجاحات التنظيمات السياسية الشبابية اليسارية التي عملت في السنوات الأخيرة إلى جانب التيارات الليبرالية وشباب الإخوان وفي أوساط العمال والنخب وحقق بعضها انجازات تنظيمية وفكرية ملموسة.
كل المؤشرات تؤكد أن المعركة السياسية والتشريعية الحقيقية ستكون بين الإخوان وجبهة القوى اليسارية. غير أن النجاح قد يكون من نصيب الإخوان المسلمين بدعم غير معلن من المؤسسة العسكرية وبسبب الفساد المستشري في الأوساط اليسارية عموما، وتواطؤ هذه القوى مع النظام السابق وإسهامها في تضليل الرأي العام بالتضخيم في حجم قوة الإسلام السياسي، وتركيز هذه القوى على العمليات التنظيمية والصراعات الداخلية، وتكوين الثروات والتآمر الداخلي. تبقى جبهة البرادعي التي تدير معاركها السياسية بآليات جديدة معتمدة على تاريخ البرادعي وعلاقاته الدولية وسمعته العالمية من جهة. وكذلك بالاعتماد على الأفكار الليبرالية التي تروج لها العديد من النخب السياسية والفكرية والثقافية من جهة أخرى.
إن المجلس الأعلى العسكري استفاد جيدا من تجربة النظام السابق في تجييش القوى السياسية، وخاصة اليسار، ضد الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون والسلفيون). وبالتالي سيكون الصراع بين الإخوان واليسار. وسيخرج الإخوان المسلمون من أي معركة سياسية أو انتخابية منهكين تماما، الأمر الذي سيسهل مهمة القوات المسلحة وممثليها في السيطرة على مقدرات البلاد إما بشكل مباشر أو غير مباشر وبالتحالف مع هذه القوة المنهكة. بينما جبهة البرادعي ستعمل على عدد من المحاور الجديدة وعلى مستوى كافة شرائح الشعب المصري. وسيساعدها في ذلك أنها بعيدة عن الخطايا السياسية للإخوان واليسار، وليس لها تاريخ في التواطؤ مع النظام السابق، وأنها أول التيارات السياسية التي دعت للثورة بينما امتنع حزب التجمع وبعض الأحزاب اليسارية الأخرى والإخوان المسلمون عن المشاركة في احتجاجات 25 يناير. وعندما انتبهوا لما يحققه الشباب بداية من 28 يناير، حاول الإخوان وحزب التجمع وحزب الوفد القفز على الثورة بالتفاوض مع ممثلي النظام السابق. ولكن المفاوضات فشلت لأسباب تعود إلى السقف العالي لمطالب ممثلي النظام الذين تعودوا على التعامل مع هذه الأحزاب والجماعات ومنحها الرشاوي السياسية والمالية والإدارية. ويبدو أن ممثلي النظام السابق حاولوا استخدام هذه القوى ضد الثورة، ولكن كان من الصعب أن تستجيب وإلا فقدت ورقة التوت الأخيرة بعد أن فقدت كل ثيابها الداخلية طوال السنوات الأخيرة.
إن محاولات الإخوان المسلمين وما يسمى بجبهة القوى اليسارية جارية للقفز على ثورة الشباب على الرغم من عدم علم أي منهما بتلك الثورة، ورفضهما المشاركة فيها منذ البداية. وإذا كان الأمل يراود جماعة الإخوان المسلمين في قيادة مصر فهذا أمر مشروع باعتبارها قوة سياسية واجتماعية لها امتداداتها الداخلية والإقليمية والدولية. لكن ذلك لن يأتي إلا بالتنسيق مع المجلس الأعلى العسكري، لأن كافة القوى السياسية ترفض العمل مع الجماعة بشكلها ومنهجها الحاليين. كما أن الجماعة تترفع عن العمل مع القوى السياسية الأخرى وفقا لحسابات المكسب والخسارة انتهازيا وليس سياسيا. أما ما يسمى بجبهة القوى اليسارية المؤلفة من خمسة أحزاب (منها العلني وغير العلني) فهي غائبة عن الساحة السياسية، وليس لها وجود في الأوساط والساحات التي تدعي أنها مجالها الحيوي للعمل والتأثير السياسي والفكري. إضافة إلى تغير الأوضاع الدولية وانحسار المد اليساري وتجذر التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إقليميا ودوليا في اتجاهات ليبرالية أو ليبرالية ديمقراطية.
من الواضح أن الإخوان المسلمين يشعرون بزهوة انتصار خادع لا لأن الشارع المصري معهم، بل لأنهم تمكنوا من نيل رضاء الغرب عموما، والولايات المتحدة على وجه الخصوص. كما أن الدعم غير المعلن من جانب المجلس العسكري يجعل تيار الإسلام السياسي يتقدم الصفوف باعتباره صاحب الحق في الحكم. ما يمكن أن نستثنيه من هذه المعادلة التي تمثل خطرا على الشعب المصري ومصالحه الآنية والبعيدة الأمد، هو شباب الإخوان الذين يجب أن يقولوا كلمتهم النهائية: هل هم مع الشعب المصري والثورة المصرية أم مع الإخوان المسلمين والسلفيين؟ على إجابتهم سيتوقف مستقبل تأسيس تيار إسلام سياسي واع بمصالح الوطن وشريك أصيل مع بقية القوى السياسية والاجتماعية في قيادة البلاد.
إذا كان التاريخ لم يأخذ الأخطاء التاريخية الفادحة للإخوان بعين الاعتبار ولأسباب كثيرة، فما يفعله الإخوان في الوقت الراهن لن يمر مرور الكرام، لأن السقطة التاريخية الآن تعادل كل سقطاتهم وسقطات كل من تخرج من مدرستهم بداية من ثلاثينيات القرن العشرين. فمن الواضح أنهم مصممون على دخول معركة "تكسير عظام" مع الشعب المصري، وأنهم كانوا الحلقة الأضعف لتمرير سيناريو في غاية الخطورة سيؤثر على مستقبل المصريين ومصالح البلاد. والأخطر من ذلك أنهم على استعداد تام لإعادة كل شيء إلى المربع الأول حتى وإن كانت دماء المصريين هي الثمن. ولا شك أن الولايات المتحدة وإسرائيل هما المستفيدان الأكبران والأولان من تطبيق النموذجين، سواء الباكستاني أو التركي المشوه في مصر.