قطع المصريون مائة عام تقريباً، فى الفترة الواقعة بين ثورة 1919، وثورة 25 يناير 2011، ولكن هذه المسافة الزمنية نفسها يمكن تقسيمها إلى ثلاث فترات متساوية: الأولى من 1919 إلى 1952، والثانية من 1952 إلى 1981، والثالثة من 1981 إلى 2011.
كل فترة كما ترى امتدت لثلاثين عاماً على وجه التقريب، وكل فترة، فى الوقت ذاته، كانت لها ملامحها التى تميزها!
ففى الأولى، كانت الحكاية قد بدأت بثورة، هى الأشهر فى تاريخ البلد، وبعد ثورة 19، كان المصريون على موعد مع دستور جديد هو دستور 23، الذى ألغته ثورة 52، والذى لايزال كثيرون بيننا يتطلعون إلى دستور يماثله أو حتى يشبهه، وقد كانت تلك الفترة الأولى غنية على كل مستوى، فلاتزال توصف حتى اليوم بأنها الفترة الليبرالية الأعلى فى تاريخنا: فى الاقتصاد، وفى السياسة، وفى الثقافة، وفى كل مجال.
كان الوفد هو سيد الأحزاب فيها، وكان إذا جرت انتخابات حرة، يكتسح جميع الدوائر، دون استثناء، وكانت الأحزاب تتنافس، وكان هناك تداول للسلطة بمعنى من المعانى، وكانت هناك أسس لاقتصاد حر، وكانت هذه الأسس يمكن البناء عليها، لولا أن ثورة 52 أطاحت بها كما أطاحت بالأحزاب، وكان فيها الملك فؤاد الذى راح يفكر فى الاعتداء على الدستور، وكان العقاد يرد عليه ويقول إن الشعب مستعد لتحطيم رأس أى إنسان يفكر فى اعتداء من هذا النوع، وكان لدينا وقتها رؤساء حكومات من الطراز الرفيع، وكان يكفى أن يكون فى مصر رئيس حكومة من نوعية سعد باشا زغلول، أو مصطفى النحاس، أو إسماعيل صدقى، ليقال إن عندنا رئيس وزراء له قامة ووزن، وكانت فى مصر بورصة هى الأقوى حتى اليوم، وكان.. وكان!
وقد بدأت الفترة الثانية بثورة أيضاً، وكان ذلك عام 52، وبعدها كنا على موعد آخر مع مشروع دستور 54، ثم دستور 56، ثم الوحدة مع سوريا عام 58، وانفضاضها عام 61، وحرب اليمن بعدها بقليل، وقبلها كانت معركة تأميم القناة، وجاءت نكسة 1967، وبين التأميم والنكسة كانت التأميمات، والحراسات، وكانت سنوات عامرة بكل ما هو إيجابى وسلبى معاً، وقد امتدت بعد رحيل عبدالناصر، لنكون على موعد ثالث مع
دستور 71 الدائم ثم ثورة التصحيح التى قادها السادات عام 1971، وكان طرد الخبراء الروس هو الحدث الأهم فى عام 72، ثم كانت «73» هى درّة التاج، وبعدها جاء الانفتاح الذى لم يكن مدروساً، وجاء افتتاح قناة السويس من جديد، وجاءت نشأة الأحزاب لأول مرة بعد الثورة منذ إلغائها عام 1953، وجاءت زيارة السادات إلى القدس، وجاءت كامب ديفيد عام 78، وجاءت معاهدة السلام عام 79، وجاءت.. وجاءت إلى آخره!
وحين بدأت الفترة الثالثة عام 1981، بمجىء «مبارك» إلى السلطة، فإنها كانت فترة منزوعة الأحداث بمقاييس ما سبقها.. كانت فترة هادئة.. وجامدة.. وتكاد تكون ميتة، بما استدعى أن يأتى من بعدها بعث جديد على يد 25 يناير 2011.
وإذا كان هناك من سوف يتصور أنى أقول ما يخص الفترة الثالثة، بعد أن سقط صاحبها من فوق حصانه - فإننى ألفت الانتباه إلى أنى قلت هذا بالضبط، بل أكثر منه، فى أثناء وجود الرجل على قمة السلطة، وفى هذا المكان، وهو كله موجود، ومنشور فى النور!